الهوية الرقمية المتعددة: من تكون عندما لا يراك أحد؟
في العالم الواقعي، كل شخص يتجول بوجه واحد — على الأقل، هذا ما نحب أن نصدّقه. لكن ما إن يدخل إلى العالم الرقمي، حتى يتفتّت إلى قطع صغيرة، كل قطعة منها تمثل هوية رقمية مختلفة.
في تويتر، أنت ساخر، لاذع، وربما متمرّد. في إنستغرام، أنت مسالم، جميل، لطيف ومهندم. في تيك توك، أنت مهرج — أو فنان. وفي مجموعات الواتساب العائلية؟ أنت نموذج الأخلاق والاحترام والتفاعل مع “صباح الخير” كل يوم.
فمن أنت فعلًا؟
الإنترنت: مسرح كبير للأقنعة
الهوية الرقمية لم تعد مجرد صورة شخصية واسم مستخدم. إنها الآن مزيج دقيق من التصرفات، الآراء، المشاركات، واللا مبالاة أحيانًا. والأسوأ؟ كل منصة اجتماعية تطالبك بأن تكون نسخة جديدة… نسخة "تناسب" جمهورها.
هذه ليست تعددية إبداعية. هذه ازدواجية مزمنة. أنت تبدأ بتعديل نفسك تدريجيًا حتى لا يبقى منك شيء حقيقي. تمثل شخصية هنا، وشخصية هناك، وشخصية ثالثة لا تشبه الأولى ولا الثانية… وفجأة، تنسى الأصل. تنسى من كنت قبل أن يبدأ العرض.
الهروب تحت غطاء "الحرية"
نقول لأنفسنا إننا نرتدي أقنعة على الإنترنت بدافع الخصوصية أو اللعب أو التعبير الحر. لكن الحقيقة أعمق: نحن نرتديها لأننا خائفون من أن نكون أنفسنا. الإنترنت لا يمنحك الحرية فقط، بل يمنحك أيضًا القدرة على الاختباء… خلف الصور، خلف الكلمات، خلف الرموز التعبيرية.
هل هذا انفصام؟ أم ذكاء اجتماعي؟
بعض علماء النفس يرون أن هذه التعددية في الهوية ليست مرضًا، بل آلية تكيّف ذكية. كل بيئة تطلب شخصية مناسبة، وكل جمهور له قناع مفضل. لكن… متى تنقلب هذه المهارة إلى فوضى؟ عندما تصبح غير قادر على أن تكون نفسك حتى في عزلتك.
العالم الرقمي ليس افتراضيًا بعد الآن
الخطير أن الحدود بين "الواقعي" و"الرقمي" بدأت تذوب. ما تكتبه، ما تنشره، ما تُمثله على الإنترنت… صار يؤثر على واقعك: عملك، علاقاتك، احترامك لذاتك.
الهوية الرقمية لم تعد اختيارية. إنها قطعة من وعيك. وإذا تشظت أكثر من اللازم، فأنت لا تملك "خيارات أكثر"، بل ضياع أعمق.
الخلاصة: من تكون في الظل؟
السؤال الذي يجب أن يوقظك ليس: كيف يراني الآخرون؟ بل: من أنا عندما لا يراني أحد؟ الهوية الرقمية المتعددة قد تكون لعبة مؤقتة… لكنها أحيانًا تُكلّفك الحقيقة.